ســر الـفـــداء

سر الفداء

يسوع المسيح فادي البشر

س- كيف أتمَّ المسيح سرُّ الفداء؟

ج- أتمَّ المسيح سرُّ الفداء بموته على الصليب بملءِ اختياره.

 

س- وهل موت المسيح على الصليب حدث تاريخي؟

ج- نعم موت المسيح على الصليب حدث تاريخي لا سبيل إلى انكاره وقد سجله الرسل في أناجيلهم مكرهين بنوع ما لأنه لم يُدرْ بخلدهم يومًا أن هذه النهاية المشؤومة تنتظر معلمهم رغم تهييئه لهم، إلى أن فوجئوا بالواقع المرير؛ وكان التبشير بهذا الحدث يؤلف النقطة المركزية من كرازتهم ولأجله جازفوا بأرواحهم كي لا ينكروا أمر حقيقته. وقد ألمع المؤرخون غير المسيحيين إلى موت المسيح أمثال تاكيتوس عند الرومان ويوسيفوس عند اليهود.

 

س- ما معنى كلمة فداء؟

ج- كلمة فداء معناها إنقاذ أو تحرير. والكتاب المقدس يستعمل لفظتين كي يدل على عمل الله الخلاصي نحو البشر: «الله يفدي» و «الله يُنقذ». فاللفظة الأولى استُعملت أولاً للدلالة على الحل من العبودية أو التحرير من القيود؛ غير أن هذا العمل التحريري كان يجري لقاء دفع دية «الفداء» ثم استُعملت هذه الكلمة للدية التي كان الشعب يقدمها إلى الله في الهيكل ليفتدي بها كل مولود ذكر بكر فاتح رحم، وكانت هذه الدية حملاً صحيحًا من الغنم يُقرَّب ذبيحة للرب. ثم استُعملت كلمة «فداء» لما أنقذ الله شعبه من عبودية الفراعنة في مصر بواسطة موسى (تثنية الاشتراع 7/8 و9/26) وأخيرًا انتقلت كلمة «فداء» إلى تحرير الإنسان من ربقة الخطيئة وعبوديتها وضرورية التطهير منها التكفير عنها، إذ أنه لا يوجد عبودية للإنسان أحطَّ منها (حزقيال 34/20 و45/15).

 

س- ولماذا فرض الله الذبائح من الحيوانات على شعب إسرائيل كما جاء في الكتاب المقدس؟

ج- فرض الله الذبائح على شعب إسرائيل ليحملهم على الإقرار له بسلطانه المطلق عليهم وعلى جميع مخلوقات الأرض ثم لكي يشكروه على صنيعه، خاصةً لما أخرجهم من دار العبودية بمصر وقد أمر بذبيحة الفصح – ومعنى الفصح الخروج – وبإحياء تلك الذكرى في كل سنة ليذكّرهم بكريم عطفه وجميل صنيعه نحوهم (خروج 12)؛ وأخيرًا الكهنة والأحبار بأن يقدموا له ذبائح تكفير عن الخطايا والمآثم (أحبار 16و17).

س- ولماذا كانت ذبيحة المسيح على الصليب لافتداء البشرية؟

ج- كانت ذبيحة المسيح على الصليب ضرورية لافتداء البشرية بسبب معصية الإنسان الأول، آدم، جد البشرية وقطع العلاقات البنوية والودية بينه وبين الله. لقد عصى آدم الله فحصلت القطيعة بينه وبين ربّه وبات يحنُّ إلى نعيم فقده ولا سبيل له إلى العودة إليه وهو لا يملك وسيلة إلى التكفير والتعويض؛ وأنَّى له أن يكفّر وهو خليقة حقيرة، والمهان إله قدير والإهانة على قدر المهان! لكنَّ الله الكلي الجودة والرحمة شاءَ أن يتدارك الإنسان البائس فأرسل ابنه الوحيد إلى نجدته فجاءَ المسيح يقدم نفسه وسيطًا بين الله أبيه والبشر ولهذا تجسد وتألم ومات، فلولا المعصية والخطيئة لما كان موجب لموته.

 

س- ولكن أما بمقدور الإنسان أن يكفّر هو نفسه عن خطيئته دون وساطة المسيح؟

ج- كلا! وذلك لسببين:

1- أولهما لأن الإنسان بخروجه على طاعة الله خرج عن دائرة أبناء الله هو وذريته واقترف ذنبًا نحو العدالة الإلهية ممَّا اضطر الله على معاقبته لإعادة الحق والنظام إلى نصابه. وقد أصبح التعويض نحو العدالة أمرًا واجبًا لا مفرَّ منه، وهو قائم بأن يعيد الإنسان إلى الله الإكرام والخضوع الذي حبسه عنه ليسترجع البرارة المفقودة له ولإخوانه البشر. ولن يقوى على التعويض ما لم يأتِ بعمل صالح يفوق الخلل الذي أحدثه بخطيئته، وهذا ما يفوق قدرة المخلوق. وزد على ذلك فهل يستطيع الإنسان الخاطئ أن يبرر خاطئًا آخر؟ ولهذا بات بحكم المقرر أن تعود بادرة التعويض ومهمته إلى الله وحده.

2- وثانيهما لأن الخطيئة انتحار روحي اقترفه الإنسان حيث فقد مبدأ الحياة الروحية، حياة البرارة، حياة أبناء الله، الذي تسلَّمه مجانيًا من الله وليس من ذاته؛ والمنتحر مهما ندم على خطإه وطيشه لا يستطيع أن يعود إلى الحياة بعد أن أعطى الموت لنفسه، ذلك لأن مبدأ الحياة قد تسلمه من غيره وليس من ذاته. يستطيع أن يخسره بالانتحار ولكن لا يستطيع أن يسترجعه مهما عمل. وهكذا الإنسان بعد سقوطه في الخطيئة وخسرانه مبدأ الحياة الروحية قد أصبح عاجزًا عن استرجاعه حياة البرارة، حياة أبناء الله دون تدخل الله ووساطته المباشرة، فهذا ما سبب التجسد والفداء.

 

س- كيف كانت وساطة المسيح في سر الفداء؟

ج- كانت وساطة المسيح في سر الفداء على الشكل الآتي: لما تجسد ابن الله يسوع المسيح جمع في شخصه الإلهي الطبيعتين الإلهية والبشرية فكان إلهًا وإنسانًا معًا، فتسنى له عندئذ أن يقوم بدور الوسيط بين الله والناس. وهكذا أصبح بتجسده بكرًا لإخوة كثيرين وهبهم نعمة التبني، نعمة أبناء الله كما أوضح ذلك بولس الرسول (رومانيين 8/29). «فَإِنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَحَدَّدَ أَنْ يَكُونُوا مُشَابِهِينَ لِصُورَةِ ابْنِهِ حَتَّى يَكُونَ بِكْرًا مَا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (روما 8/29). وبفضل هذه الوساطة تمكن بموته على الصليب من التكفير عن خطايا البشر الذين كان يحمل بشريتهم ويصلبها معه، ومن مصالحتهم مع الله أبيه؛ فكان بذلك آدم جديدًا للبشرية المتجدّدة كما ألمع إلى ذلك أيضًا بولس الرسول بقوله: «لأَنَّا إِذَا كُنَّا قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ فَبِالأَحْرَى كَثِيرًا نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ ... لأنه إن يكن بِسَبَبِ زَلَّةِ وَاحِدٍ قَدْ مَاتَ الْكَثِيرُونَ فَبِالأَحْرَى كَثِيرًا وَفَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ وَعَطِيَّتُهُ لِلْكَثِيرِينَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لإِنْسَانٍ وَاحِدٍ هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (روما 5/10-16). وجملة القول كان المسيح يتألم على الصليب كإنسان ولكنه كان ينال مثابة واستحقاقات إله، ذلك لأن فيه طبيعتين إلهية وإنسانية في شخص واحد شخص ابن الله.

 

س- ولكن هل الإله يموت؟

ج- إله يموت! هذا ما شق على حكماء آثينا التسليم به وحسبه اليهود المقيمون خارجًا عن فلسطين ضربًا من الجنون مما أنطق بولس الرسول بقوله: «أَمَّا نَحْنُ فَنَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا شَكًّا لِلْيَهُودِ وَجَهَالَةً لِلأُمَمِ» (1كورنتس 1/23). إن المسيح لم يمت بوصفه إلهًا – فالإله لا يموت – لكنه مات بوصفه إنسانًا وليس في موت الإنسان ما يدعو إلى الاستغراب وقد ارتضى الموت طوعًا ليمجد أباه السماوي وليفتدي بني البشر. وقد وصف تطوعه هذا الاختياري داود النبي ألف سنة قبل ميلاده فقال: «ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً لَمْ تَشَأْ لكِنَّكَ ثَقَبْتَ أُذُنَيَّ وَلَمْ تَطْلُبِ الْمُحْرَقَاتِ وَلا ذَبَائِحَ الْخَطِيئَةِ. حِينَئِذٍ قُلْتُ هَاءَنَذَا آتٍ فَقَدْ كُتِبَ عَنِّي فِي دَرْجِ الْكِتَابِ. لأَعْمَلَ بِمَشِيئَتِكَ يَا أَللهُ. إِنِّي فِي هذَا رَاغِبٌ وَشَرِيعَتُكَ فِي صَمِيمِ أَحْشَائِي» (مز 39/7). والمسيح نفسه أشار إلى ذلك التطوع الاختياري حيث قال: «يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَبْذِلُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي وَلكِنِّي أَبْذِلُهَا بِاخْتِيَارِي وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ أبْذِلَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يوحنا 10/17).

 

س- إذن كانت الغاية الأساسية من مجيء المسيح افتداء البشرية بذبيحة حياته؟

ج- نعم كانت الغاية الأساسية من مجيء المسيح افتداء البشرية بذبيحة حياته وسط الآلام المبرّحة. وقد وصفه أشعيا النبي ثمانية قرون قبل مجيئه وسط العذاب حاملاً خطايا البشر ليكفّر عنها قال: «إِنَّهُ لَقَدْ أَخَذَ عَاهَاتِنَا وَحَمَلَ أَوْجَاعَنَا فَحَسِبْنَاهُ ذَا بَرَصٍ مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمُذَلَّلاً. جُرِحَ لأَجْلِ مَعَاصِينَا وَسُحِقَ لأَجْلِ آثَامِنَا فَتَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ وَبِشَدْخِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا ضَلَلْنَا كَالْغَنَمِ كُلُّ وَاحِدٍ مَالَ إِلَى طَرِيقِهِ فَأَلْقَى الرَّبُّ عَلَيْهِ إِثْمَ كُلِّنَا ... وَالرَّبُّ رَضِيَ أَنْ يَسْحَقَهُ بِالْعَاهَاتِ فَإِنَّهُ إِذَا جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ ... وَمَرْضَاةُ الرَّبِّ تَنْجَحُ عَلَى يَدِهِ» (اشعيا 53/4-11).

وقد بشَّر به ملاك الرب القديس يوسف مربيه بأنه سيكون مخلِّصًا وفاديًا للشعب: «وَسَتَلِدُ (مريم) ابْنًا فَتُسَمِّيهِ يَسُوعَ (المنقذ المخلّص) لأَنَّهُ هوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى 1/21).

وقدَّمه يوحنا المعمدان للشعب فاديًا ومخلّصًا بقوله: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ الْعَالَمِ» (يوحنا 1/29).

وهو نفسه صرَّح أكثر من مرّةٍ أنه جاء ليمحو خطيئة العالم ويمنح البشر ولادة روحية ثانية بموته على الصليب. هذا ما أدلى به لنيقوديمس أحد علماء اليهود الذي جاءَهُ ليلاً يستوضحه عن كنه رسالته: « وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّة هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الْبَشَرِ لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونَ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3/14-15).

وأطلع تلاميذه أكثر من مرة على دخيلة أمره وعلى قصده في الموت صلبًا لأجل افتداء العالم. وقد دعا ساعة موته، ساعته ساعة مجده، وكثيرًا ما كان يقول: لم تأتِ سلعتي بعد... أتت الساعة الخ... (يوحنا 7/5 و12/23).

ولَمَّا أسَّسَ سر الإفخارستيا ليلة موته ناول تلاميذه كأس الخمرة قائلاً: «إِشْرَبُوا مِنْ هذَا كُلُّكُمْ لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي لِلعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُهْرَاقُ عَنْ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26/27).

وقال بعد قيامته من الأموات لتلميذي عمّاوس شارحًا فكرة الفداء وضروريته: «وَهكَذَا كُتِبَ: أنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَسِيحِ أَنْ يَتَأَلَمَ وَأَنْ يَقُومَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (لوقا 24/47).

 

س- ولماذا مات المسيح ليلة الفصح، العيد العظيم عند اليهود؟ هل كان ذلك مصادفة أم بتدبير خاص من قبله؟

ج- لقد تدافعت الأحداث التي أفضت إلى صلبه قرب عيد الفصح بتدبير خاص من قبله، منها أنه أختتم رسالته بأعظم معجزاته كلها بحيث أقام العازر من القبر في قرية بيت عنيا المجاورة لأورشليم قبل عيد الفصح بخمسة أيام فقط، محرجًا بذلك اليهود على قبوله مسيحًا وربًا أو على صلبه. وقد أراد أن يموت ليلة الفصح كي يستبدل بذبيحة حياته ذبيحة الفصح فيغدو ثمت هو نفسه الفصح الحقيقي مؤبدًا. أجل كانت ذبيحة الفصح المألوفة عند اليهود ترمز إلى ذكرى خروج بني إسرائيل من دار العبودية بمصر وعبورهم بحر القلزم على اليابسة وتحررهم وعتقهم. أما المسيح فقد أراد أن يحقق العتق والإنقاذ الحقيقي لا من دار العبودية بمصر بل من عبودية الخطيئة، جاعلاً هكذا الشعب المسيحي المؤمن يعبر من عالم الخطيئة إلى الحياة الأبدية التي هي عند الآب السماوي (يوحنا 13/1).

 

س- ولكن نحن نرى في محاكمة المسيح وصلبه جريمة، فأين هو طابع الذبيحة لافتداء البشر؟

ج- أجل أن في صلب المسيح لجريمة. لكنه قدَّم ذاته طوعًا واختيارًا لله أبيه مسبقًا ولا سيما في حفلة تأسيس سر الإفخارستيا في العشاء السري ليلة صلبه في جوٍّ مشبع بالصلاة والخشوع، حيث أخذ كأس الخمرة وباركها وقدَّسها وقال لتلاميذه: «إِشْرَبُوا مِنْ هذَا كُلُّكُمْ هذَا هُوَ دَمِي لِلعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُهْرَاقُ عَنْ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26/27).

 

س- إن كان المسيح قد افتدى البشرية على الصليب فلماذا إذن يجهد الإنسان لأجل خلاصه؟

ج- لقد افتدى المسيح البشرية جملةً ولكنه لم يعفِ الإنسان من الجهاد والكفاح الفردي فيبقى عليه أن يحفظ وصايا الله ويستخدم الأسرار الإلهية ويصوم ويصلّي كي يفيد من نعم الفداء واستحقاقاته المدَّخرة له.

 

س- ولكن لِمَ الصليب؟ أما كان بوسع المسيح أن يفتدي البشر بدون الصليب وآلامه الفادحة وأوجاعه الكاوية؟

ج- كان بمستطاع المسيح أن يفتدي البشر ويصالحهم مه الله أبيه بفعل سجود بسيط يؤديه باسمهم، لكنه آثر الصليب وأوجاعه، لا لأنه كان يتعشق الألم ولا لأن أباه السماوي ظالم يطرب لمرأى الدماء بل ليلقي على البشر تعاليم خالدة تبقى عالقة في أذهانهم ومطبوعة على قلوبهم إلى مدى الدهر، منها:

1-  أمثولة في المحبة تحملهم على إدراك محبة الله غير المتناهية لهم ومبادلته تعالى المحبة بالمثل.

2- ليجعلهم يلمسون شناعة الخطيئة التي سببت آلامه فيجتنبوها، والإنسان لا يتأثر بشيء مثله في مرأى الدماء جارية على الخشبة أمامه.

3- ليفهمهم قيمة نفوسهم التي افتديت بدم كريم كي لا يعرّضوها للهلاك.

4- كي يكون الصليب إنجيلاً ملخصًا ناطقًا يذكّرهم بكل تعاليمه.

5- وأخيرًا كي يكون منهل قوةٍ.

 

س- وكيف الصليب هو ملخص الإنجيل؟

ج- الصليب هو ملخص للإنجيل بمعنى أن المسيح طبّق بموته على الصليب ما كان قد ألقاه من تعاليم وإرشادات على البشر متفردًا بذلك عمَّا تقدمه من مؤسسي الأديان والمصلحين الذين قلَّما طبَّقوا تعاليمهم على حياتهم. أجل كان المسيح قد وضع شرعة المحبة في رأس تعاليمه: «أَحْبِبْ قَريبَكَ مَحَبَّتِكَ لِنَفْسِكَ... أَحِبُّوا أَعْدَائَكُمْ... اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ... إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ فَلا يَغْفِرُ لَكُمْ أَبُوكُمْ السَّماوي زَلاَّتِكُمْ» (متى 5/44 ولوقا 6/37). وإذا به وهو على الصليب يضع تعليمه هذا موضع العمل فيغفر لصالبيه قائلاً: «يَا أَبَتِ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لا يَدْرُونَ مَا يَعْمَلُونَ» (لوقا 23/34). أمر بمحبة القريب حتى بذل النفس، وقد بذل ذاته لأجله مطبقًا عليه ما كان قد فاه به: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ عَنْ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15/13). علَّم الناس الصبر على الشدائد والتمرس بالتضحيات، والتضحية خير وسيلة لكبح جماح النفس الأمَّارة بالسوء وآمن طريق للخلاص فقال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعْنِي فَلْيَكْفُرْ بِنَفْسِهِ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متى 16/24) وها هو يحمل صليبه حتى الموت. علَّم البشر أن يؤثروا الموت على معصية الله وألاّ يخافوا من يقتل الجسد ولا يستطيع قتل النفس (متى 10/28) فشرب كأس العذاب والموت على الصليب وأبان للناس في جسده شناعة الخطيئة، وقد جعلته جرحًا من رأسه إلى أخمص قدميه. وهكذا يبقى الصليب إنجيلاً مصغَّرًا يوجز تعاليم المسيح بحيث أن من نظر إليه ذكرها في خطوطها الأساسية.

 

س- وكيف الصليب هو منهل قوة؟

ج- كان الصليب سابقًا أداة عذاب ورمز ذلّ وهوان. وقد أصبح بعد أن مات المسيح عليه منهل قوة وعنوان كرامة ومدعاة فخار، يرمقه المسيحي بعين الإيمان فيرى ينابيع النعم تتدفق عن جنباته، يراه الشبّان فينهلون منه القوة على تحطيم ما كبّلتهم به أهواؤهم الثائرة من قيود، وتتأمله العذارى في الأديار ودور الإحسان فينشقن منه ضوع الطهارة والعفاف ويستقين روح البذل والعطاء في خدمة المتألم والمنبوذ، يرنو إليه المريض في زفرة وانكسار فيستلهمه الصبر على معاناة الألم، وإذا أزفت ساعة الرحيل يطبع عليه قبلة حرَّى مليئة من التأسف والندامة على خطاياه يغمض معها عينيه عن دنيا الشقاء ليفتحهما على فجر أبدي رحيب. يرفع إليه المجرم بصره في حياء بعد أن استحكم به اليأس وخنقه القنوط فيرتد عن يأسه وقد عاوده الرجاء بالحياة، يعود إليه العامل عند المساء فيلقي على أقدامه ثقل النهار وينهل منه قوة جديدة ليوم جديد، تختلس ربة البيت نظرة إليه في غمرة أشغالها المنزلية فتجدد على المضي في طريق الجهاد، يخفيه الجندي بين طيات أثوابه فتأتيه الشجاعة لخوض غمرات العراك والموت، يستصحبه المرسل في مجاهل الأرض في حله وترحاله يبثه شكواه وهمومه ويقاسمه أثقاله وأتعابه فتهون عليه الأثقال وتنقلب الشكوى على شفتيه ترنيمة عرفان جميل عميق! وهكذا يصبح الصليب في جميع مراحل الحياة منهل قوة، فيستطيع ثمت كل مسيحي أن يقول مع الفيلسوف باسكال: «إنني أحبّ الصليب بسبب المسيح المصلوب عليه وأحبّ المسيح بسبب صليبه».

 

س- ولكن إن كان لا بُدَّ من افتداء البشرية بواسطة المسيح فلماذا تأخر موعده؟

ج- ليس لله ماضٍ ولا مستقبل إنما هو تعالى في حاضر أبدي، يرى عمل الفداء كأنه ماثل أبدًا أمامه. لهذا كان منذ نشأة البشرية يبعث رُسُلاً هُداةً يرشدون الناس إلى طريق الصلاح بحيث إذا ما لبّوا الدعوة وخضعوا للسُنَّة الطبيعية وأجابوا إلى صوت الضمير تمكنوا من الإفادة من نعم الفداء المقبلة، وهكذا تمكّنت مريم العذراء من الإفادة من استحقاقات ابنها يسوع المسيح فعُصِمَت من الخطيئة الأصلية فكانت سلطانة الحبل بلا دنس. وقد تأخر موعد مجيء المسيح كي تستعد له الأرض خير استعداد وتسهم في تحضيره فلا يكون فقط ذاك الندى الذي ستقطره السماء؛ بل ثمرة من ثمار الأرض أيضًا ونبتًا من نباتها وليدعى بحق «ابن البشر». وكان فوق ذلك على البشرية المنغمسة في الحيوانية والوثنية أن تخبر مرارة ابتعادها عن الله كي تتمكن من تذوق حلاوة افتقاده إياها بإرساله إليها ابنه متجسدًا في شكل إنسان. إن طريقة الله في تهذيب البشر تستغرق الوقت الطويل، لهذا تأخر مجيء المسيح وموعد الفداء.

 

س- ولكن أليس من مذلة يأباها العقل أن يموت الإله لأجل افتداء خلائقه؟

ج- ليس من المذلة بشيء أن يموت الإله في طبيعته البشرية لأجل افتداء خلائقه. هي الجودة التي حملته على خلق البشر وهي الجودة عينها التي حدته على انقاذهم من براثن الشر بعد سقوطهم في الخطيئة – وليست الجودة بأحط صفة بالله – فإن كان الله غير متناه فلماذا نضع حدًا لجودته؟ إننا نبخسه حقه عندما نضع حدًا لجودته وحنانه. وإن كانت الجودة الباعث الأكبر على الخلق فالمنطق يقضي بأن تتابع الجودة عمل الخلق وتصلحه إذا ما طرأ عليه خلل. فبادرة الفداء نتيجة حتمية لجودة الله بعد سقوط الإنسان في الخطيئة. وزد على ذلك أن الفداء أظهر أجمل وجه في الله، حبه اللامتناهي، وهو القائل: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ عَنْ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15/13).

 

س- لقد ادَّعت بدعة مسيحية من الخوارج في القرن الرابع دعيت «بالدوقيين» إن المسيح تألم شكليًا فقط وشُبِّه للبشر وخُيِّل لهمم أنه صُلب وتألم ولكنه بالواقع لم يمت مصلوبًا بل انتقل إلى السماء دون ألم فما قولك بذلك؟

ج- إن دعاة هذه البدعة نفيهم الصلب عن المسيح بدلاً من أن يرفعوا مكانته يحطّون من قدره بحيث يجردونه من أجمل ما فيه ألا وهو تطوعه الاختياري لافتداء البشر، ويكذبونه المقال لأنه سبق وتنبأ عن موته صلبًا أكثر من مرّةٍ. وإن كان صلبه شكليًا وصوريًا فقط فالبشر لا يزالون تحت نير الخطيئة وهم بحاجة إلى فادٍ ومخلّص من جديد، والحال إننا عتقنا من ربقة الشر وتحرَّرنا من عبودية الخطيئة وأصبحنا أبناء الله بالتبني وإخوة السيد المسيح بفضل سر الفداء كما أوضح ذلك بولس الرسول برسالته إلى الرومانيين (5-8).

 

س- كم كانت مدة حياة المسيح على الأرض؟

 

ج- مدة حياة السيد المسيح على الأرض كانت على الأرجح ثلاثًا وثلاثين سنة قضى منها ثلاثين سنة في الناصرة طواها على الحياة المخفية في الصمت والصلاة والعمل الكادح، وثلاث سنين قضاها في التبشير والكرازة بالإنجيل. ومات يوم الجمعة العظيمة وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.

خلاصة الدين المسيحي

اليومَ العذراءُ تأتي إِلى المغارة. لِتلِدَ الكلمةَ الذي قبلَ الدُّهور. ولادةً تفوقُ كلِّ وَصْفٍ. فاطْرَبي أَيَّتُها المسكونَة. إِذا سَمِعْتِ. ومجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة. مَنْ شاءَ أَنْ يَظْهَرَ طِفْلاً جديداً. وهو الإِلهُ الذي قبلَ الدُّهور