ســر الـتـجـســـد الإلـهــي

 

ألوهيَّة يسوع المسيح

 

س- ولكن الأنبياء أثبتوا أيضً صحة رسالتهم بقداسة سيرتهم ومعجزاتهم ونبوءاتهم: أفلا يوجد إذن فرق بينهم وبين المسيح؟

ج- بلى، يوجد فرق بين الأنبياء والمسيح رغم ما أتوه من خوارق، ذلك لأنهم فصلوا تعاليمهم عن شخصيتهم بحيث نسبوا ما قاموا به من معجزات إلى الله لا إلى ذواتهم. أما المسيح فلم يفصل بين تعاليمه وشخصيته ولا نسب إلى سواه ما أتاه من معجزات، لكنّه جعل نفسه موضوع تعليمه لأنه إله وابن الله. فما قال مثلاً إني آتيكم بتعليم جديد من لدن الله وإني مرشدكم إلى طريق تؤدي إليه بل قال: «أَنَا نُورُ الْعَالَمِ مَنْ تَبِعَنِي فَلا يَمْشِي فِي الظَّلامِ» (يوحنا 8/12). «أَنا الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لا يَأْتِي أَحَدٌ إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14/6). ما قال إني أحمل إليكم وسائل تضمن لكم الحياة الأبدية بل قال: «أَنَا الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَإِنْ مَاتَ، فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11/25). كان هو نفسه الإنجيل بشرى الخلاص إلى العالم قد نستطيع أن نفصل موسى عن شريعته وأشعيا عن نبوءته لكننا لا نستطيع أن نفصل المسيح عن إنجيله.

 

س- فالمسيح إذن إله؟

ج- نعم إن المسيح إله وقد أعلن ألوهيته بتصرفاته وتصريحاته. وشريط حياته اليومي أي مجموعة تصرفاته اليومية من تعاليم وتدابير واجراءَات وحركة ولا سيما مقاضاته أمام المحكمة الدينية اليهودية العليا (السنهدريم) والحكم عليه بالموت صلبًا لن يُفهم إلاّ لأنه قال بألوهيته.

 

س- وكيف تصرف المسيح كإله؟

ج- تصرف المسيح كإله من حيث إنه عدّل الشريعة الموسوية التي هي من الله وغيَّر مراسيم السبت (متى 5و6) وقال بحق غفران الخطايا وأظهر سلطانه على الحياة والموت مثل الله وأعلن حقه بالصدارة على الأنبياء وطلب أن يُحَب ويُعبَد كإله.

 

س- كيف غفر الخطايا؟

ج- غفر الخطايا بظروف متعددة منها إن اليهود جاؤوا يومًا بمخلَّعٍ ليشفيه من شلله. أما هو فلمَّا رآه ابتدره بقوله: «ثِقْ يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ!» ولما استغرب علماء اليهود تصرفه هذا وقالوا بقلوبهم إنه يجدِّفُ لأنه لا أحد يستطيع أن يغفر الخطايا إلاّ الله، حينئذٍ قال لهم: «لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ ابْنَ البَشَرِ (المسيح) لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمُخَلَّعِ قُمْ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ» (متى 9/1-8). ثم بعد قيامته من الأموات قلَّ تلاميذه السلطان على مغفرة الخطايا (يوحنا 20/22) وأمرهم بأن يكرزوا باسمه بإنجيل التوبة لمغفرة الخطايا (لوقا 24/46).

 

س- وكيف أظهر ذاته ربًا للموت والحياة؟

ج- أظهر ذاته ربًا للموت والحياة بإحيائه الموتى. هكذا أحيا ابنة يائيروس رئيس المجمع (مرقس 5/11-16، لوقا 8/41-56، متى 9/18-26) وأحيا ابن أرملة نائين (لوقا 7/11-17) أما قدرته الإلهية فتجلَّت بنوع خاص ببعثه عازر شقيق مرتا ومريم من القبر بعد دفنه بأربعة أيام في قرية «بيت عنيا» المجاورة لأورشليم (يوحنا 11/1-44). وقف المسيح في هذه المعجزة إلى جانب الله الخالق يواصل عمله الإلهي المبدع، كما ألفنا في العهد العتيق، معلنًا أنه رب الموت والحياة، كما جاء في الأسفار المقدسة:

-     «أَلرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي يُحْدِرُ إِلَى الْجَحِيمِ وَيُصْعِدُ» (ملوك1 2/6).

(من نشيد حنة أم صموئيل النبي)

-      «أَنْتَ الَّذِي أَرَانِي مَضَايِقَ كَثِيرَةً وَشَدِيدَةً لكِنَّكَ تَعُودُ فَتُحْيِينِي» (مز 70/20).

-     «رُوحُ اللهِ هُوُ الَّذِي صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي» (أيوب 33/4).

-      «أَلَعَلِّي أَنَا إِلهٌ أُمِيتُ وَأُحْيِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ هذَا أَنْ أُبْرِئَ رَجُلاً مِنْ بَرَصِهِ؟» (ملوك 4:5/7) وها هو الآن يُظهر تلك القدرة الإلهية على الموت والحياة في بعثه عازر حيًا من بين الأموات، وقد طمأن مرتا أخت الميت مؤكدًا لها أنه سيقيم أخاها من القبر بقوله لها: «أَنَا الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَإِنْ مَاتَ، فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11/25).

فكلمة «أَنَا الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ» هي كلمة الله ذاته في العهد العتيق، حيث يبيّن قدرته الإلهية على الخلق والموت والحياة:

-     «أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ الْكُلِّ نَاشِرُ السَّمَاوَاتِ وَحْدِي وَبَاسِطُ الأَرْضِ بِنَفْسِي» (أشعيا 44/24).

-     «أَنِّي أَنَا هُوَ لَمْ يُكَوَّنْ إِلهٌ قَبْلِي وَلا يَكُونُ بَعْدِي. أَنَا أَنَا الرَّبُّ وَلا مُخَلِّصَ غَيْرِي» (أشعيا 43/10).

سوف نرى بطرس تلميذ يسوع المسيح يُحيي الموتى ولكن باسم وبقدرة معلمه، أما المسيح فقد أحيا عازر وأقامه من القبر بقدرته الشخصية مختصًا لنفسه القدرة على الموت والحياة. وقبل أن يبعث عازر حيًا من بين الأموات، رفع عينيه إلى السماء وخاطب الله أباه قائلاً: «يَا أَبَتِ أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ لِي فِي كُلِّ حِينٍ لكِنْ قُلْتُ هذَا لأَجْلِ الْجَمْعِ الْوَاقِفِ حَوْلِي لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي» وصاح بعد ذلك بأعلى صوته «يَا لَعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجًا!» فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالعصائب ملفوف الوجه في منديل. فقال لهم يسوع: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبُ». «فَآمَنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاؤوا إِلَى مَرْيَمَ وَرَأَوْا مَا صَنَعَ» (يوحنا 11/41-45).

فلو لم يكن المسيح حقيقةً إلهًا مساويًا للآب في الألوهية لكان الآب كذَّبه ومنعه أن يُجري هذه المعجزة، لا سيّما وأنه صنعها تأييدًا لصدق رسالته «لِكَي يُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي».

 

س- وكيف ادَّعى حق الصدارة على الأنبياء؟

ج- ادَّعى حق الصدارة على الأنبياء بأن أعلن ذاته «ربَّ السبت» (مرقس 2/28) وحق الصدارة على يونان النبي وسليمان وسائر الأنبياء (متى 12/31) «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ ويَحْكُمُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُم تَابُوا بِكَرْزِ يُونَانَ وَههُنَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ. مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَحْكُمُ عَليْهِ لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ وَههُنَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ».

 

س- وكيف ادَّعى حق العبادة؟

ج- ادعى حق العبادة بأن ساوى نفسه بالله وأمر الناس بأن يؤمنوا به وبتعاليمه وأن يحبسوا على حبه المهج والأرواح إن شاؤوا الخلود. يطلب أن يُحَب أكثر من الأب والأم والزوج والابن والأبنة وكل حبيب. ومن آثر نفسه عليه فقد أضاعه: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمَّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلَنْ يَسْتَحِقُّنِي. وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوْ بِنْتًا أَكْثَرَ مِنِّي فَلَنْ يَسْتَحِقُّنِي. وَمَنْ لا يَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَلَنْ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 10/37-40). واحتمال الاضطهاد لأجله يورث الإنسان الحياة الأبدية (متى 5/11). وما الكفر به في هذه الدنيا سوى مجلبة شقاء في الآخرة: «مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 10/32).

 

س- وكيف كانت مجاهرته بالألوهية؟

ج- كانت مجاهرته بالألوهية أن أعلن ذاته ابنًا لله والمسيح المنتظر والديَّان العادل الذي سيدين البشر يومًا على أعمالهم. هو ابن الله مساوٍ لآبيه بالجوهر أي بالمعرفة والقدرة:

- «كُلُّ شَيْءٍ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ» (متى 11/25).

-  «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ». (يوحنا 14/8) «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10/30).

-  «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الْمَوْتَى وَيُحْيِيهِمْ كَذلِكَ الابْنُ يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَدًا بَلْ أَعْطَى الْحُكْمَ كُلَّهُ لِلابْنِ لِيُكْرِمَ الابْنَ جَمِيعُ النَّاسِ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ وَمَنْ لا يُكْرِمِ الابْنَ لا يُكْرِمِ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ... لأَنَّه كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ الْحَيَاةُ فِي ذَاتِهِ كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَنْ تَكُونَ لَهُ الْحَيَاةُ فِي ذَاتِهِ وَأَعْطَاهُ سُلْطَانًا أَنْ يُجْرِيَ الْحُكْمَ بِمَا أَنَّهُ ابْنُ الْبَشَرِ» (يوحنا 5/21-27).

وقال أيضًا أنه في الدينونة الأخيرة سيجلس على عرش مجده ويقيم الخراف (الأبرار) عن يمينه والجداء (الأشرار) عن شماله ويجري فيهم القضاء والعدل ويناقشهم الحساب على المحبة (متى 25/21-46).

 

س- وما كانت ردة الفعل عند اليهود تجاه تلك التصريحات؟

ج- لقد أثار المسيح حفائظ اليهود عليه بهذه الأقوال «فَازْدَادَ الْيَهُودُ لأَجْلِ هذَا طَلَبًا لِقَتْلِهِ – يقول يوحنا الإنجيلي - لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يَنُقُضُ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا لأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللهَ أَبُوهُ مُسَاوِيًا نَفْسَهُ بِاللهِ» (يوحنا 5/18). وقد حاولوا يومًا أن يرجموه بعد تصريح من النوع «فَأَجَابَهُ الْيَهُودُ إِنَّنَا لَسْنَا لِعَمَلٍ حَسَنٍ نَرْجُمُكَ لكِنْ لِلتَّجْدِيفِ وَلأَنَّكَ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهاً وَأَنْتَ إِنْسَانٌ» (يوحنا 10/33).

 

س- وكيف كانت عاقبة هذه التصريحات؟

ج- كانت عاقبة هذه التصريحات إن المسيح أحرج اليهود على أمرين لا مخرج لهم منهما: إمَّا أن يُقِرّوا له بالألوهية ويسجدوا له ويعبدوه وإمَّا أن يرجموه أو يصلبوه. وقد زادهم إحراجًا لما اختتم رسالته بأعظم معجزاته كلها بحيث بعث العازر وأقامه من القبر بعد وفاته ودفنه بأربعة أيام بعد أن قال مطمئنًا ومؤكدًا لأخته مرتا عن عزمه وقدرته على إحيائه: «أَنَا الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَإِنْ مَاتَ، فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11/46-53).

وبما أنه أُرسل خصيصًا ليفتدي البشر، سوف يترك الأحداث تتدافع منذ ذلك الحين لتقوده إلى الصليب كما سترى ذلك فيما بعد.

 

س- كيف كان موقف تلاميذ المسيح ورسله من ألوهيته؟

ج- لم يكن من طبع اليهود أن يؤلهوا إنسانًا وما رأيناهم يؤلهون موسى رغم ما أتاهم من المعجزات الخارقة. فالتلاميذ والرسل رأوا أنفسهم أمام إنسان صادق وقديس ونزيه يعمل لا لأجل مصلحته بل لأجل مجد الله أبيه، وقد عايشوه مدة ثلاث سنين ولم يروا فيه أدنى عيب. ومن جهة ثانية سمعوه يكاشفهم علانيةً أنه ابن الله وأنه مساوٍ لأبيه في القدرة والمعرفة وقد رأوه يصنع المعجزات تأييدًا لتعاليمه وأقواله فقالوا بأنفسهم أنه لو كان كاذبًا لما كان الله يتركه يصنع الآيات والمعجزات. هذا ما تحققه أبسط إنسان بين اليهود، الشاب الأعمى، الذي أعاد له يسوع البصر يوم قال لعلماء الناموس معلنًا إيمانه برسالة المسيح: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَسْمَعُ لِلْخَطَأَةِ وَلكِنْ إِذَا أَحَدٌ اتَّقَى اللهَ وَعَمِلَ مَشِيئَتَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ» (يوحنا 9/31).

 

س- ولكن كيف العمل للتوفيق بين وحدانية الله وبين ألوهية المسيح لا سيما وأنه تكلم أيضًا على شخص ثالث مساوٍ له وللآب أيضًا بالقدرة، يدعى الروح القدس، لما قال لتلاميذه: «اذْهَبُوا الآنَ وَتَلْمِذُوا كُلَّ الأُمَمِ مُعَمِّدِينَ إِيَّاهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ»، فمن هو هذا الروح القدس!

ج- لقد جاءَ الكلام في الإنجيل على الروح القدس يوم بشَّر الملاك جبرائيل العذراء مريم وطمأنها بأنها ستحبل دون زرعٍ بشريّ وأن المسيح الذي تلده سيكون من الروح القدس (لوقا 1/35). وقد وعد به المسيح تلاميذه بأنه سيحل عليهم بعد صعوده إلى السماء كي يشهد له كما هو شهد لأبيه وأنه سيفهم ويشرح ما يكون قد أُغلِقَ عليهم: «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنَ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي وهُوَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يوحنا 15/26و16/14). فأعمال الروح القدس هي إذن التكوين والوحي والإلهام والنور. وهذا مما يدل على أنه مساوٍ للآب والأبن في القدرة.

 

س- ولكن كيف نشرح وحدانية الله وسرُّ تثليثه معًا؟

ج- نشرح ذلك على الوجه الآتي: كلمة ابن الله لا تعني لله ولدًا على شاكلة البشر وحسب مفهوم البشر، فولادة الابن من الآب مفادها أنه صدر عنه كما يصدر النور عن الشمس ويأتي إلى الأرض لينيرها ويمنحها الدفء والحرارة ويبقى بالوقت نفسه في الشمس؛ أو كالقصيدة أو بيت الشعر الذي تتمخض به مخيلة الشاعر فيلده ويصبح ابنه وليد تفكيره ونتاج مخيلته – ولقد دُعيت القصيدة بحق بنت الخيال – فيخطه على القرطاس وتتداوله أيدي الناس وبالوقت ذاته يبقى راسخًا أبدًا في مخيلة الشاعر ولم يبرحه البتة.

 

س- وكيف كان صدور ابن الله المسيح عن الله أبيه؟

ج- كان صدور ابن الله، المسيح، عن الله أبيه باطنيًا ونعني بالصدور الباطني إن الصادر يبقى داخل مصدره كالفكرة التي تبقى في عقل المفكّر وإن كُتِبَت على القرطاس، بخلاف الصدور الخارجي الذي ينفصل فيه المعلول عن علته شأن الولد الذي ينفصل عن أبيه وعلة كيانه. فالخلائق صدرت عن الله الآب صدورًا خارجيًا ولكنه ما يزال يحفظها في الوجود بقوته وأن أهملها يومًا عادت إلى العدم. أما ابن الله فكان صدوره باطنيًا ولهذا دعاه يوحنا الإنجيلي «الكلمة» بحيث قال: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ الله. كُلٌّ بِهِ كُوِّنَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يُكَوَّنْ شَيْءٌ مِمَّا كُوِّنَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا وَسَكَنَ في ما بينَنَا وَقَدْ شَاهَدْنَا مَجْدَهُ» (يوحنا 1). فالكلمة، ابن الله، صار بشرًا وكان المسيح الذي جاء إلى أرض البشر وعايشهم وعلمّهم طريق الحياة وافتداهم وخلَّصهم وبالوقت نفسه كان دومًا بفكر الله أبيه ولم يبرحه قد ولهذا يبقى أبدًا واحدًا مع أبيه. أمَّا الروح القدس فهو المحبة المتبادلة ما بين الآب والابن، الرباط الحي الذي يربط الآب بالابن، فكان انبثاقه أيضًا باطنيًا من الآب والابن معًا: هذا ما أعرب عنه السيد المسيح لما وعد به تلاميذه بقوله: «الرُّوح القُدُس يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. جَمِيعُ مَا لِلآبِ فَهُوَ لِي مِنْ أَجْلِ هذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ (يوحنا 16/14).

 

س- ولكن ما الذي يجعل الله واحدًا في ثلاثة أقانيم أو أشخاص؟ أليس ذلك انتقاص لقدر الله؟ أوليس من الأفضل الله واحد فحسب؟

 

ج- إن جوهر الله محبة، كما يقول يوحنا الإنجيلي (1يو 4/16)، ولا يمكن ألاّ يكون محبة ليكون سعيدًا. فالمحبة هي مصدر سعادة الله، ومن طبع المحبة أن تفيض وتنتشر على شخص آخر فيضان الماء وانتشار النور. فهي إذن تفترض شخصين على الأقل يتحابان وتفترض مع ذلك وحدة تامة بينهما بحيث يندفع الحب الى هبة الذات لمن يُحب هبةً تكون فيها سعادتهما. فلكي يكون سعيدًا – ولا معنى لإله غير سعيد وإلاّ انتفت عنه الألوهية – كان عليه أن يهب ذاته شخصًا آخر يجد فيه سعادته ومنتهى رغباته، وهذا الشخص لا يستطيع أن يكون لا أعلى من الله ولا أدنى منه وإلاّ لبطلت ألوهيته، بل يكون بالتالي صورة ناطقة له. ولهذا ولد الله الابن منذ الأزل نتيجة لحبه إياه ووهبه ذاته ووجد فيه سعادته ومنتهى رغباته، وبادل الابن الآب هذه المحبة ووجد فيه هو أيضًا سعادته ومنتهى رغباته. وثمرة هذه المحبة المتبادلة ما بين الآب والابن كانت الروح القدس. هو الحب إذن يجعل الله ثالوثًا وواحدًا معًا لأن الحب يفرض التعداد والوحدة معًا.

خلاصة الدين المسيحي

غاية تجسد ابن الله

 

س- بما أن يسوع المسيح هو حقيقة ابن الله فما الأسباب التي حدته ليتجسد ويصير إنسانًا؟؟

ج- تجسد ابن الله، يسوع المسيح وصار إنسانًا لأربعة أسباب:

1" – لكي يظهر أبوة الله للبشر.

2" – لكي يعلّم البشر الأخوة الصحيحة.

3" – لكي يكون مثالً حيًا أمامهم.

4" – لكي يفتديَهم ويخلّصهم.

 

س- كيف أظهر المسيح أبوة الله للبشر؟

ج- أظهر المسيح أبوّة الله للبشر برفقه بالضعفاء والبائسين والخطأة. رفق بالأطفال في زمن قسا أهله عليهم فاعتدوهم سلعًا تُباع وتُشرى وادَّعوا أن لهم عليهم حق الموت والحياة. أما هو فاحترمهم وباركهم لأن «مَلائِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يُعَايِنُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 18/10). وإنذار بالعقاب الرهيب من فتح عيون الصغار على الشر أو أسقطتهم في الإثم (متى 18/6). أشفق على الجماهير المتألبة عليه «مِثْلَ الْخِرافِ الَّتِي لا رَاعِيَ لَهَا» (متى 9/36). أكثر لهم الخبز بالبريّة وأطعمهم لأنهم كانوا جياعًا (متى 14/16). وأحال النواح في جنازة ابن أرملة نائين إلى زغردة عرس وفرح بحيث أوقف النعش وأقام الميّت وأحياه ودفعه لأمه الثكلى (لوقا 7/11). حنا على مرضى الأجساد على مختلف أنواعهم. ما أنفت عيناه من مرأى أبرص مشوّه الجسد يقول له: «يَا رَبُّ إِنْ شِئْتَ فأَنْتَ قادرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي» (متى 8/3). وما تأفف من الأعمى يخدش صوته الآذان ويصرخ عاليَا: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» فرحمه ورد عليه البصر (مرقس 10/47). حدب على مرضى النفوس، الخطأة فآكلهم وجاذبهم الحديث ليعيد الثقة والطمأنينة إلى نفوسهم ويضمد خاطرهم الجريح فسمح للزانية بأن تغسل قدميه بالدموع ومنحها حلة الغفران ودعا متى العشّار ليكون واحدًا من رسله الثني عشر وقال: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ صِدِّيقِينَ بَلِ خَطَأَةً» (متى 9/13). وأظهر أخيرًا أبوّة الله بأن جلا في الإنسان صورة الله. أحب البشر حبًا فوّاحًا بالنقاء والعفاف لا أثرة فيه ولا ميع ولا مساومة على الآداب والأخلاق وأحبهم على اختلاف الطبقات والنزعات حبًا لا تفرقة فيه ولا تشيّع ولا محاباة فكان في حبه للناس صورة أبيه السماوي التي عمل على جلائها في نفوسهم فذكّرهم بأنهم على مثال الله تتعدى قيمتهم السلع والعجماوات، فما كان الإنسان يومًا مُلْكَ الدولة ولا ملك أسياده ولا ملك الأمَّةِ إذ أصبح أخًا ليسوع المسيح بالتبني وشريكًا له بالحياة الإلهية ووريثًا معه في السماء.

 

س- وكيف علَّم المسيح البشر الأخوَّة؟

ج- أفهمهم أن أباهم واحد وهو الله وأنهم جميعًا إخوة، أفضلهم عند الله أتقاهم، وجرَّأهُم على الوقوف أمامه وقفة البنين في ثقة وإخلاص يدعونه في صلاة أجمل ما فاهت به شفتا بشرٍ «أبانا الذي في السماوات». وعلَّمهم أن يقولوا «أبانا» بصيغة الجمع تذكيرًا لهم أنهم جميعهم إخوة على اختلاف المقام والألوان والأجناس. وباح لهم بسرٍّ ما كان يراود خيالهم وهو أهم جميعًا عائلة واحدة رأسها المسيح ابن الله المتجسد الذي صار بشرًا مثلهم وبكر الخليقة المتجددة: «أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ» (يوحنا 15/5). وقال من بعده رسوله يوحنا الإنجيلي مُفسّرًا أفكاره بهذا الصدد: «لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا فَإِنَّ الْمَحَبَّة مِنَ اللهِ فَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَهُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ وَعَارِفٌ بِهِ وَمَنْ لا يُحِبُّ فَإِنَّهُ لا يَعْرِفُ اللهَ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ» (1يوحنا 4/7). ومن بعده القديس بولس الرسول: «لأَنَّ جَمِيعَكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ جُمْلَةَ مَنِ اعْتَمَدْتُمْ فِي الْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلا يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلا حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَلا أُنْثَى لأَنَّكُمْ جَمِيعَكُمْ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية 3/26).

 

س- قلت إن ابن الله يسوع المسيح تجسد ليكون مثالاً حيًا للبشر يقتدون به فكيف ذلك؟

ج- تجسد ابن الله، يسوع المسيح، وصار إنسانً ليكون قدوةً للبشر يقتدون بها في علاقاتهم مع الله ومع بعضهم بعضًا. فما سنَّ للناس شريعةً إلاّ لزم نفسه بها من قبلهم ولا أرشدهم إلى فريضة إلاّ أتمّها بدوره. تمرّس بما يتمرسون به من أتعاب وشقاء وآلام. فجسَّد في شخصه تعاليمه الإلهية. لم يسلّم للبشر عقائد جافة باردة لكنَّه نصَّب ذاته إمامًا لهم بقوله: «أنا الطريق» (يوحنا 14/6). فوضع هكذا في شريعته الرغبة في حملها مما حدا الفيلسوف باسكال على القول: «إني أُحبُّ الفقر لأن يسوع أحبَّهُ». فما أهون العمل على العامل عندما يعرف أن المسيح عمل قبله ويعمل الآن معه! وما أيسر احتمال الآلام على من سمّرهم المرض على فراش الآلام عندما يوقنون أن المسيح تألم قبلهم وهو يتألم الآن معهم! وما أسهل الكفاح على الشباب للثبات على القمم عندما يعرفون أن المسيح كافح لأجلهم ويكافح معهم الآن! علَّم البشر أن يحفظوا وصايا الله وأن يخضعوا لكل سلطة تمثله وقد مارس ذلك وكانت كل حياته فعل طاعة وهو القائل: «لأَنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لا لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 6/38).

علَّم البشر أن يغفروا كل إساءَةٍ تلحق بهم وقد غفر لصالبيه لما كان يعاني سكرات الموت على الصليب قائلاً «يا أبتاه اغفِر لَهُم» (لوقا 23/34).

 

س- وما كانت الغاية الأخيرة من تجسد ابن الله، يسوع المسيح؟

ج- كانت الغاية الأخيرة من تجسد ابن الله يسوع المسيح افتداء البشر وتمجيد الله معًا بتخليص شرفه تعالى المهان بالخطيئة.

 

س- ولكن أولَيس هنالك من غضاضة أو مذلة تلحق بالله من جرّاء التجسد؟

ج- ليس ثمة من مذلة لله من جرّاء التجسد، فهل يخسر الكبير شيئًا عندما يحنو على الصغير أو الرفيع على الوضيع أو السليم على السقيم أو الغني على الفقير؟ وهل يَذلّ القديس عندما يشفق على الخاطئ الضعيف أم يلطّخ الطبيب يده بوصمة عار عندما يضمد جراح المريض أو يدنّس المؤاسي كفه عندما يمسح دمعة الحزين، لا لعمري بل يزداد كل منهم رفعةً وسموًا. عندما ينحدر إنسان من علو شاهقٍ ويبقى منتصبًا على ساقيه ينتزع إعجاب الناس فيصفقون له وهكذا انحدار ابن الله إلى أرض البشر وتجسده واتضاعه لم يكن إلاّ ليزيد البشر إعجابًا به وحبًا له.

 

س- إذن كان من الخير أن يتجسد ابن الله ويصير إنسانًا؟

ج- نعم كان من الخير العميم أن يتجسد ابن الله ويصير إنسانًا، فالمسيح هو ملتقى الحُبين، حُب الله للإنسان وحُب الإنسان لله، فيه تجسد حُب الله ليظهر بأَرق وأحن مظاهره وفيه تسامى حب الإنسان وتروحن وارتقى إلى الله بأجمل وأسمى مظاهره أيضًا؛ فيه إعارات الإنسانية الله قلبًا من لحمٍ ودمٍ ليخبر ضعفها وشقاءَها ويحنو ويشفق دومًا عليها؛ وفيه أعار الله الإنسانية قدرته الإلهية لتستطيع أن تجاوبه على حبه وتحبه حبًا يليق به فيتهيأ لها ثمت القول مع بولس الرسول: «وَأَنَا حَيٌّ لا أَنَا بَلْ إِنَّمَا الْمَسِيحُ حَيٌّ فِيَّ» (غلاطية 2/20). فالمسيح هو انحدار السماء إلى الأرض وارتفاع الأرض إلى السماء، هو قبلة السماء إلى الأرض وقبلة الأرض إلى السماء، هو ذاك الجسر الحي الذي امتد مؤبدًا ما بين السماء والأرض والذي طال ما حلمت به البشرية منذ زلة الإنسان الأول وانحرافه عن سوي السبيل.

 

س- ولماذا لم يجاهر المسيح بألوهيته منذ بدء كرازته بالإنجيل وأبقى ذلك إلى الأيام الأخيرة من حياته؟

 

ج- لم يجاهر المسيح بألوهيته أمام الجماهير في بدء كرازته بالإنجيل كي يتهيأ له الوقت اللازم لبث رسالته وتثقيف تلاميذه وتأسيس كنيسته ولا يُحرج اليهود على صلبه قبل الأوان. كان يكتفي بأن يعلن ألوهيته من وقت إلى آخر أمام نفر من تلاميذه وأتباعه كما حدث ذلك في قيصرية فيليبس (متى 16)، وإلى السامرية على بئر يعقوب (يوحنا 4).

خلاصة الدين المسيحي

اليومَ العذراءُ تأتي إِلى المغارة. لِتلِدَ الكلمةَ الذي قبلَ الدُّهور. ولادةً تفوقُ كلِّ وَصْفٍ. فاطْرَبي أَيَّتُها المسكونَة. إِذا سَمِعْتِ. ومجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة. مَنْ شاءَ أَنْ يَظْهَرَ طِفْلاً جديداً. وهو الإِلهُ الذي قبلَ الدُّهور